إنَّ الحَمْدَ لله ، نَحْمَدُه ، ونستعينُه ، ونستغفرُهُ ، ونعوذُ به مِن شُرُورِ أنفُسِنَا ، وَمِنْ سيئاتِ أعْمَالِنا ، مَنْ يَهْدِه الله فَلا مُضِلَّ لَهُ ، ومن يُضْلِلْ ، فَلا هَادِي لَهُ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبْدُه ورَسُولُه.
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102].
{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء : 1].
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } [الأحزاب : 70 ، 71].
أما بعد :
فهذا هو كِتَاب تَفْسِير القرآن العظيم ، للإمام العلامة ، المُفَسِّر ، المُؤرِّخ ، الحُجَّةِ الحَافِظِ إسْماعيلَ بْنِ عُمَرَ بْنِ ضَوْءِ بْنِ كَثيرٍ القُرَشِيِّ الشَّافِعِيِّ الدّمَشْقِيِّ - رَحِمَه اللهُ - أُقَدِّمُه لِقُرَّاء العَرَبِيَّةِ والعَالَم الإسْلامِيِّ ، بَعْدَ مُضيِّ قَرْنٍ من الزمان على طبعته الأولَى تقريبًا ، كادتْ - خِلال هذه الفَتْرَةِ - أن تُخْفى مَعَالِمُهُ ، وتَنمَحِي مُمَيِّزَاتُهُ مِنْ جَرَّاء عَبَثِ الوَرَّاقِين ، ومُمَارسَاتِ المتأكِّلِين مِنْ صَحفيّينَ وَكَتْبِيين.
أقدِّمُه بَعْد أن قُمْتُ بِأعْبَاءِ تَحْقِيقِهِ وضَبْط نَصِّهِ ، وتَخْرِيجِ أحَادِيثهِ والتَّعْلِيق عَلَيْهِ ، عَلَى نَحْوٍ يُيَسِّر الفَائِدةَ مِنْهُ ، ويُحقِّقُ رَغْبَةَ أهْل العِلْم الذين طالما تَمَنَّوْا أنْ يُنْشَرَ هَذَا الْكِتَابُ نَشْرَةً عِلْمِيَّةً مُوَثَّقةً ، خَالِيةً مِنَ التَّحْريفِ ، والسَّقْط والتَّصْحِيفِ.
وتَفْسير ابن كثير - رحمه الله - من أعْظَم وأجَلِّ كُتُبِ التفسير ، أمْضَى فيه مُؤَلِّفهُ - رحمه الله - عُمُراً طويلا وهو يُقلِّبُ فيه بين الفَيْنَةِ والأخرى ، مُحَلِّيًا إيَّاه بِفَائِدةٍ تَخْطُر له ، أو حكاية قولٍ أزْمَعَ تَحْقِيقهُ.
وقد احْتَوَى تَفْسيرُهُ على الكثير من الأحَاديثِ والآثارِ من مصادر شَتَّى ، حتى أتَى على مُسْنَدِ الإمام أحمد فَكَادَ يَسْتَوْعِبه ، كما نَقَل عن مصادر لا ذِكْرَ لها في عَالَمِ المخطوطات ، كتفسير الإمام أبي بَكْر بن مَرْدُويه ، وتفسير الإمام عَبْد بْنِ حُمَيْدٍ ، وتفسير الإمام ابن المنْذِر ، وغيرها كثير.
كما تَضَمَّنَ تفسيرُ ابن كثير - رحمه الله - بَعْضَ المباحِثِ الفِقْهيَّةِ والمسائل اللُّغَوِيَّةِ ، وقد قال الإمام
السُّيُوطِيُّ : لم يُؤلَّف على نَمَطٍ مِثْلُه.
والطَّرِيقةُ التي اتَّبَعَها الحافظُ ابنُ كَثِيرٍ في كِتَابِهِ أن يَذْكُرَ الآيةَ ، ثم يَذْكُر مَعْناها العام ، ثم يُورِدُ تَفْسيرَها من القُرْآنِ أو من السُّنَّةِ أو من أقوال الصَّحَابِة والتَّابِعينَ ، وأحْيانًا يَذْكُرُ كُلَّ ما يَتعلَّقُ بالآيةِ من قَضَايا أو أحْكَامٍ ، ويَحْشُد لذلك الأدِلةَ من الكِتَابِ والسُّنةِ ، وَيذْكرُ أقْوَالَ المذاهبِ الفِقْهِيَّةِ وأدِلتَهَا والتَّرْجِيحَ بَيْنَها.
وقد أبَانَ الحافظُ ابنُ كَثير عَنْ طَرِيقَتِهِ في مُقدِّمةِ تَفْسِيرِه ، قال : "فَإنْ قَالَ قَائِلٌ : فمَا أحْسَنُ طُرُقِ التَّفْسِيرِ ؟ فَالْجوابُ : إنَّ أصَحَّ الطُّرُقِ في ذلك أنْ يُفَسَّرَ القرآنُ بالقرآنِ ، فما أُجْمِلَ في مكَانٍ فإنه قد بُسِطَ في مَوْضِعٍ آخرَ ، فإن أعْياكَ فَعَلَيْكَ بالسُّنَّة ؛ فإنها شَارِحةٌ للقُرْآنِ وَمُوَضِّحةٌ له ، وحِينَئذٍ إذا لم نَجِدِ التفْسِيرَ فِي القُرآنِ ولا في السُّنةِ رَجَعْنا في ذلك إلى أَقْوالِ الصَّحابةِ ؛ فإنهم أدْرَى بذلك لما شَاهَدُوا من القَرائِنِ والأحْوالِ التي اخْتُصُّوا بها ، ولِما لهم مِنَ الفَهْمِ التَّامِ والعِلْم الصَّحِيح والعَمَلِ الصَّالِحِ ، لاسيَّما عُلَماءَهُم وكُبَراءَهُمْ كالأئمَّةِ الأربعةِ الخُلَفاءِ الرّاشِدين ، والأئمة المهتدِينَ الْمهدِيِّينَ ، وعَبْدَ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنهم أجمعين - وإذا لم تَجِدِ التفْسِيرَ في القُرآنِ ولا في السُّنةِ ولا وَجَدْتَهُ عنِ الصَّحابةِ فقد رَجَعَ كَثير من الأئمةِ في ذلك إلى أقوالِ التَّابِعينَ".
طَبَعاتُ الكتابِ :
وقد طُبِعَ هذا التفسيرُ لأوَّلِ مرة في المطْبَعَةِ الأمِيريَّة من سنة 1300 هـ إلى سنة 1302 هـ بهامش تفسير "فَتْح البَيَان" لِصدّيقِ حَسَن خَان ، ثم طَبَعهُ الشيخُ رَشِيد رِضَا - رحمه الله - ومعه تَفْسيرُ البَغَوِيِّ في تِسْعَةِ مُجلَّداتٍ بأمر جَلالِة الملِكِ عبدِ الْعَزيزِ بْنِ عبدِ الرَّحْمنِ آلِ سُعُود - رحمه الله - من سنة 1343 هـ إلى سنة 1347 هـ ، واجْتَهدَ - رحمه الله - في تَصحِيحهِ ما اسْتَطَاعَ ، ولكن فَاتَهُ الشَّيْءُ الكَثِيرُ.
ثُمَّ تَدَاولتِ المطَابِعُ طَبْعَهُ طبعاتٍ تِجاريَّة ، ليس فيها تَصْحِيح ولا تَحْقيقٌ وَلا مُراجَعَةٌ ، وإنما اعْتَمَدُوا طَبْعَة "المنار" ، فأخذوها بما فيها من أغْلاطٍ ، ثم زادوها ما استطاعوا من غَلَط أو تَحْريفٍ.
فَكَانَ انتفاعُ النَّاسِ بهذا التفْسيرِ انتفاعًا قاصرًا ؛ لما امتلأتْ بِهِ طَبَعاتُهُ مِنْ غَلَطٍ وَتَحْريفٍ ، يَجِبُ معهما أن يُعادَ طَبْعُهُ طبعةً عِلْمِيةً مُحَقَّقةً ، ويُرجَعُ فيها إلى النُّسَخِ المخْطُوطةِ منه ما أمْكَنَ ، ثم الرجوع إلى مصادر السُّنَّةِ الَّتِي يَنْقِلُ عنها الحافظُ ابْنُ كَثيرٍ ، وإلى كُتُبِ رِجَالِ الحديثِ والتَّراجُمِ لتَصْحِيحِ أسْماءِ الرجالِ في الأسانيدِ ، وهم شَيءٌ كثيرٌ وعدَدٌ ضَخْمٌ (1).
حتى جاءت سنة 1390 هـ فَخَرجتْ طَبعةٌ جَديدةٌ لهذا التَّفْسير من دار الشَّعْبِ بتَحْقيقِ الأساتذةِ :
(1) عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (1/ 6).
عبد العزيز غُنَيم ، ومُحمَّد أحمد عاشور ، ومحمد إبراهيم البَنَّا.
لكنهم اعْتَمَدوا على نُسخةِ الأزْهرِ ، وهي نسخةٌ قديمةٌ وجَيِّدةٌ ، لكن بمقارنتها بِبَقِيَّةِ النُّسَخِ فإنَّهَا يَكْثُر فيها السَّقْطُ والتَّصْحِيفُ (1).
(1) وقد سدت هذه الطبعة فراغًا آنذاك ، ولكن يتعين بعد اليوم عدم اعتمادها في دراسة أو قراءة لكثرة ما فيها من السقط والأوهام.